ألقى الأستاذ الدكتور طالب القريشي، عميد كلية اللغات والمتخصص باللغة العبرية وآدابها، اليوم السبت السابع عشر من شهر كانون الأول 2011 على قاعة المرحوم الدكتور عناد غزوان في جمعية المترجمين العراقيين محاضرة علمية تناول فيها عن آلية خلق المترجم الفوري من خلال استقرائه للآراء التي أوردها إبن خلدون في “مقدمته”. ويتلخص هذا الاستقراء من خلال التفريق بين اكتساب اللغة وبين تعلمها. فالأول يؤدي الى التمكن من اللغة قراءة وكتابة ومحادثة، في حين أن الثاني يؤدي الى معرفة قوانين اللغة وتعليمها وليس التحدث بها. ومن هنا، استقرأ الباحث، ومن أجل خلق مترجمين فوريين، التأكيد على الاهتمام باكتساب اللغات، آخذين بنظر الاعتبار المرحلة العمرية والبيئة اللغوية، ناهيكم عن نوعية العملية التعليمية التي وضع أعمدتها وهي: المعلم والمتعلم والمادة وطريقة التعليم.
وفي مايلي مخلص المحاضرة العلمية
“اكتساب اللغات الأجنبية وتعلمها ودورهما في بناء المترجم”
أ. د. طالب القريشي
قسم اللغة العبرية
اكتسب الاهتمام السليقي للعرب باللغة والشعر بعدا آخر بعد ظهور الاسلام ودخول الكثير من الاعاجم فيه ترك أثره في ازدياد الاهتمام بفصاحة اللغة العربية بعد بروز مظاهر اللحن والعجمة من ناحية، وظهور آراء في تعلم للغة العربية واكتسابها من ناحية أخرى تبلورت من خلال معايشة طويلة وقريبة للأعاجم الذين دخلوا الاسلام وتعلموا العربية وعبروا بها عن أوجه الحياة المختلفة واستقرأوا للعوامل التي ساعدت في ذلك تجسدت لدى ابن خلدون في مقدمته بمنهج تكاملي لم يحظى باهتمام اللغويين الغربيين لعدم ترجمته الى اللغات الاجنبية ولعدم اهتمام أكاديميينا اللغويين بتراثهم اللغوي العربي .
اشتهر عبد الرحمن بن خلدون، كما هو معروف، عالما إجتماعيا عرض في مقدمته أوجها متنوعة من الحياة الاحتماعية للعرب ما زالت تحظى باهتمام الباحثين حتى هذا اليوم. وفي نفس الوقت أفرد جانبا من اهتمامه لعملية اكتساب لغة ثانية وتعلمها تشكل منهجا تكامليا تناوله اللغويون الغربيون بشكل نظريات مجتزأة لا تشكل منهجا متكاملا في هذا الشأن. ويقول احد الباحثين في هذا المجال ان ابن خلدون: “فضلا على انه فلسف علم الاجتماع، فانه مهد للسانيات التربوية؛ ففي مخزون “مقدمته” استطرادات ثرية عن نظرية التحصيل اللغوي، وقد لا اكون مبالغا اذا قلت ان تلك الاستطرادات تحتاج الى بحث مستفيض يستقصي جميع جوانبها”.
يعتقد ابن خلدون أن اللغة تشكل ملكة طبيعية عند الانسان يكتسبها ويتعلمها كباقي الملكات بقوله: “إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر، كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات” ، وفي مكان آخر يقول: “والملكات كلها جسمانية، سواء كانت في البدن أو في الدماغ، من الفكر وغيره، كالحساب. والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر الى التعليم”. وفي موضع آخر يقول: “أن الفكر الانساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته، وهو في البطن الاوسط من الدماغ”.
وقد سبق ابن خلدون العلماء الغربيين في التفريق بين الملكة اللغوية وصناعة اللغة العربية التي يمكن تطبيقها على جميع اللغات؛ فهو يقول: “من هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، ,انها مستغنية عنها بالجملة.. ذلك أن صناعة العربية هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية وليس نفس كيفية”. ويبدي ابن خلدون دليلا حيا على هذا التفريق الذي استقرأه بقوله: “وكذلك نجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين، اذا سئل في كتابة سطرين الى اخيه او ذي مودته او شكوى ظلامة او قصد من قصوده، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيرا ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظور والمنثور، وهو لا يحسن اعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور ولا شيئا من قوانين صناعة العربية”. هذه الرؤيا الفاحصة المميزة للملكة اللغوية كما عبر عنها ابن خلدون جمعت بين الكفاية اللغوية والكفاية التواصلية التي تشير الى مقدرة المتحدث على تنويع حديثه وفق سياق الحال على غرار ما ذكره ابن خلدون: “فإن كلامهم (يعني العرب) واسع، ولكل مقاال عندهم مقال يختص به بعد كمال الاعراب والابانة”. ورأي ابن خلدون هذا يشبه ما ذهب اليه القائلون بالنظرية التفاعلية الذين يؤكدون على اختلاف الثقافات الانسانية ومعنى كلامهم يختلف عن بعضهم حسب وروده في سياقات متنوعة.
أما فيما يخص اكتساب اللغة فيؤكد ابن خلدون على دور البيئة اللغوية التي يترعرع وسطها الفرد ويسمع تعابير مجتمعه فيقول أن الانسان: “يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها اولا ثم يسمع التراكيب فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعه لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم واستعماله يتكرر الى ان يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم”. وهنا، على ما يبدو، يؤكد ابن خلدون على ان السمع هو ابو الملكات اللسانية ويجب ان يحتل مقاما رئيسا في تعليم اللغات المختلفة، لاسيما في عصرنا من خلال استخدام المختبرات الحديثة وتكثيف مادة الصوت والمحادثة وخلق بيئة لغوية اصطناعية. وشدد ابن خلدون على اهمية طرق التعليم بعد ان احس جهل الكثير من المعلمين بطرقها قائلا: ” وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي ادركنا يجهلون طرق التعليم وافاداته ويحضرون للمتعلم في اول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه باحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون من غايات الفنون في مبادئها وقبل ان يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا. ويكون المتعلم اول الامر عاجزا عن الفهم بالجملة الا في الاقل، وعلى سبيل التقريب والاجمال وبالامثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب الى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن”. ويؤكد ذلك في مكان آخر بقوله: “إعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين غنما يكون مفيدا اذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه اولا مسائل من كل باب من الفن هي اصول ذلك الباب”. ويضيف أيضا: ” ثم يرجع به الى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة الى اعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الاجمال ويذكر ما هنالك من الخلاف وجهه الى ان ينتهي الى آخر الفن فتجود ملكته”.
ولا يكتفي ابن خلدون بالمدخول اللغوي فقط وانما يؤكد ايضا على اهمية الممارسة والتكرارفي اكتساب اللغة بقوله: “وانما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرار لكلام العرب”. ويؤكد ابن خلدون ايضا في موضع آخر ان ذلك الاكتساب يرسخ بالحفظ والاستعمال قائلا: “أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات. ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم (العرب) القديم الجاري على أساليبهم من القران والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في اسجاعهم واشعارهم وكلام المولدين ايضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم وتآليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من اساليبهم وترتيب الفاظهم فتحصل له (الطفل) هذا الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة … وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا”. ويذكر في مكان آخر هذه الحقيقة قائلا: “ان حصول ملكة اللسان العربي انما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه”. وبطبيعة الحال، ما ينطبق على الحفظ الكثير ودوره في تعلم العربية يمكن ان ينطبق على تعلم اللغات الاخرى، الامر الذي يتطلب من معلمي اللغات الاخرى ان يأخذوا بما ذهب اليه ابن خلدون.
أما فيما يتعلق بتعلم اللغة الثانية فإن ابن خلدون يرى قصورا فيها مهما بلغ متعلمها جهودا في اتقانها بسبب سبقها باللغة الام بقوله: “إن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة”. ويورد ابن خلدون هنا مما لمسه من تعلم الاعاجم للغة العربية التي سبقت بملكة لغاتهم قائلا: “وانظر من تقدم له شئ من العجمة، كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي، ولا يزال قاصرا فيه ولو تعلمه وعلمه. وكذلك البربري والرومي والإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي. وما ذلك الا لما سبق الى السنتهم من ملكة اللسان الآخر”. ومع ذلك، لا يعمم ابن خلدون رأيه على ثنائي اللغة أو متعددي اللغة الذين عاشوا في طفولتهم في بيئة متعددة الالسن بقوله: “من كان على الفطرة كان اسهل لقبول الملكات واحسن استعدادا لحصولها”، ويورد أيضا مثالا مستشهدا به على ما لمسه من أطفال الاعاجم الذين عاشوا في بيئة عربية قائلا: “كأصاغر ابناء الاعاجم الذين يربون مع العرب قبل ان تستحكم عجمتهم، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم”. وتتجلى هذه الحالة في محافظتنا العراقية كركوك حيث تجد معظم سكانها يتحدثون باللغات العربية والكردية والتركمانية والسريانية نسبة لتعدد القوميات فيها ويطلق على بعضهم تندرا “اربع موجات”.
إن تأكيد ابن خلدون على مرحلة الطفولة في تعلم لغة ثانية أو اكثر ربما نابع من ملاحظته الدقيقة ودربته في التقاط الظواهر اللغوية في ان الجهاز الصوتي للطفل يكون لينا ومرنا في هذه المرحلة العمرية يجعله قادرا على استيعاب الاصوات المختلفة او المفقودة في لغته الام قبل ان ياخذ بالقولبة والغلظة. وهذا ما نستقرأه من قوله: “كأصاغر الاعاجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم”. وقد أكدت الدراسات اللغوية التطبيقية هذه الحقيقة عند اشارتها الى ان البالغين يجدون صعوبة في نطق بعض الاصوات الاجنبية، على خلاف الاطفال الذي يستوعبونها. ومن هنا أيضا تأكيد ابن خلدون على هذه المرحلة العمرية في استحكام الملكات بقوله: “والمتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاما لملكاتهم”.
وعليه، ومن أجل صقل ملكات طلبتنا الدارسين للغات في جامعاتنا، لابد من الاهتمام بهذه المرحلة العمرية في تعليم طلبة الابتدائية شيئا من فقه اللغات الاجنبية المقارن، من ناحية الصوت خاصة، خشية غلظة جهازهم الصوتي عند البلوغ وظهور العجمة واللحن في لفظهم للاصوات الغريبة على العربية. وهذا يتطلب أيضا استراتيجية وتنسيقا بين وزارتي التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي لغرض اعداد مترجمين فورييين يلبون الحاجات المتزايدة للدولة من هذه الكفاءات يتسمون باكتسابهم للغات وليس تعلمها فقط.
وبسبب اهتمامه في دراسة المجتمع العربي، فانه جذب الانتباه على العلاقة بين المجتمع ولغته وتاكيده على الاصطلاحات المميزة لكل امة وبهذا يعد حقا ابو علم اللغة الاجتماعي من خلال قوله: “واعلم أن اللغة، في المتعارف عليه، هي عبارة المتكلم عن مقصوده وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلا بد أن تكون ملكة متقررة في العضو الفاعل وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب أصطلاحاتهم”. ويعد ابن خلدون سباقا ايضا لغيره من اللغويين المحدثين الاوربيين في التفريق بين تعلم اللغة واكتسابها؛ فقد اشار الى ان اكتساب اللغة يؤدي الى حصول الملكة اللغوية في حين ان تعلمها يؤدي الى المعرفة بقوانينها بقوله: “وهذه الملكة كما تقدم تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تركيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك، التي استنبطها اهل صناعة البيان. فان القوانين تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة في محلها” .
وبعد ان حدد ابن خلدون الفرق بين اكتساب اللغة وتعلمها، فهو يبدي بصيرة كبيرة رائدة في رؤياه الى العملية التعليمية وطرق التدريس ويشير الى ان نوعية التعليم مرتبطة بنوعية المعلم والمتعلم والمادة والطريقة. ومن يقرأ ما أفرده ابن خلدون في مقدمته في تعلم اللغات يمكننا ايجازها بما يأتي:
1- السمع أبو الملكات اللغوية. وهذا يعني أن المتعلم للغات يجب أن ينغمس في بيئة اللغة، ينصت الى مفرداها وتراكيبها على غرار تعلم الاطفال للغتهم حيث السمع يسبق الكلام، وتكرار هذا الكلام يجعله يرسخ يوما بعد يوم في ذهن المتعلم الى أن يصبح ملكة له. وفي هذا السياق يقول إبن خلدون: “فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله واساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها… ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر الى ان يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم”. وهذا يتطلب من اساتذتنا، في غياب البيئة اللغوية، ان يكثفوا من استخدام المختبرات الصوتية وتنويع المواد التي تدرس من خلاله وأن لا يقتصر ذلك على على مادة الصوت فقط، ويفضل اختيار الاساتذة الذين يتميزون بكفايتهم الصوتية لكي نقلل مما ذهب اليه ابن خلدون ان متعلمي اللغة الثانية يشوبهم النقص مهما بلغوا من اجنهاد، ناهيكم عن توفر وسائل الاتصال الحديثة التي يسرت الكثير من المعوقات التي صادفها طلبة الاجيال السابقة.
2- دراسة القواعد لذاتها سبب خطير في ضعف التحصيل: يعتقد ابن خلدون ان تدريس النحو يجب ان يكون مساعدا في تعليم اللغة واكتسابها وليس التبحر في جزئياته بحيث يصبح غاية بحد ذاته والاشتغال به لغوا. وهذا ما نلمسه فعلا من المتعلمين الذين يعانون من تفاصيل قوانينه وشواذه على حساب الكثير من الدروس التي تطور ملكتهم اللغوية. ولهذا يقول ابن خلدون في هذا المجال: “وهذا كما فعله المتاخرون في صناعة النحو لانهم اوسعوا دائرة الكلام فيها نقلا واستدلالا، واكثروا من التفاريع والمسائل بما اخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بالذات فتكون لاجل ذلك من نوع اللغو، وهي مضرة ايضا بالمتعلمين على الاطلاق”.
3- تمييز ملكة اللغة عن صناعتها. بمعنى ان تنمية تطوير ملكات الطلبة اللغوية، كما أشرنا سابقا، هي غير التخصص في قوانينها واسرارها بحيث تبدو مجرد علم مستقل. ان تطوير الملكة اللغوية يعني التمكن من استخدام اللغة قراءة وكتابة ومحادثة. وكان ابن خلدون واضحا في تمييزه بقوله: “ان ملكة اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم، والسبب في ذلك ان صناعة العربية انما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة، وانما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما ولا يحكمها عملا” . ومن هنا يرشد ابن خلدون المعلمين الى التركيز على تعليم اللغة ذاتها ولا يقدموا معلومات عن اللغة.
4- اللغة ملكة في اللسان: ان تعلم اللغات في نظر ابن خلدون هي ليست في معرفة مفرداتها وانما في دمجها في نص والتحكم في تراكيبها وانماطها حسب مقتضى الحال. وبهذا المعنى يقول ابن خلدون: “اعلم ان اللغات كلها شبيهة بالصناعة، اذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة او نقصانها. وليس ذلك بالنظر الى المفردات، وانما هو بالنظر الى التراكيب. فاذا حصلت الملكة التامة في تركيب الالفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التاليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من افادة مقصوده للسامع… والملكات لا تحصل الا بتكرار الافعال” وهذا يعني ان اهتمام المعلمين للغات الاجنبية يجب ان ينصب على تعليم طلبتهم ابنية الجمل مبتدئين بالجمل البسيطة والمعطوفة والمركبة مع الكثير من التدريب اللغوي بحيث يستطيع الطالب من تمييز قوانينها بيسر وجهد بسيط.
مما تقدم يمكن القول ان ابن خلدون، اضافة الى كونه عالم اجتماع، يعد ايضا ابو علم اللغة؛ ، ولا غرو فانه عاش بيئة عربية وهبت لغتها جل اهتمامها واصبحت ميزة لها على باقي الامم. ولم يكتفي ابن خلدون بالاهتمام بموضوع اكتساب اللغة فقط بل تعداها الى طرائق تعليم اللغات، وبهذا أيضا سبق الكثير من التربويين الاوربيين في هذا المجال وشخص معالم العملية التربوية التي تتلخص بالمعلم والمتعلم والمادة وطريقة التعليم . ومن هنا فما أحرانا الاهتمام بارائه التي شكلت منهجا متكاملا، وتضمينها في مناهجنا الدراسية، وليس الاكتفاء بآثار الغربيين ونظرياتهم فحسب، على الرغم من أهميتها، بل أننا ملزمون بمقاربتها ومزاوجتها معها حتى نصل الى بلوغ غايتنا بما ينسجم ورسالة كليتنا وأهدافها، لاسيما ان التعليم في الجامعة يختلف عن التعليم في الابتدائية والثانوية الذي يتسم بالتلقين في حين ان التعليم الجامعي يجب ان يكون تفاعليا ويحفز عليه.
للمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع، سينشر لاحقا على موقع الكلية البحث الموسوم “عقدة الخواجات وتفعيل آراء إبن خلدون في اكتساب اللغات الاجنبية وتعلمها” المنشور ضمن مجلد المؤتمر العلمي السابع لكلية اللغات-جامعة بغداد 2011.
ومن لقطات المحاضرة
وسيتم قريبا ً نشر بعض لقطات الفيديو في موقع كلية اللغات على اليوتيوب