بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة عميد كلية اللغات
أ.د. علي عدنان مشوش الكعبي
منذ ان التقى الإنسان الأول نظيره في الخَلق وقسيمه في اديم هذه الأرض استشعر حاجة ملحة إلى وسيلة تمكّنه من ناصية التواصل مع الآخر لتبادل الأفكار واقتسام المشاعر. ولم يلبث الإنسان الأول ان اكتشف الزراعة التي كان من اولى اساسياتها ومقتضياتها الإستقرار لإنتاج الطعام بدلاً من السعي ورائه في السهول والغابات. وهكذا نشأت القرى المبكرة في التاريخ في وادينا، وادي الرافدين. بظهور القرى وتزايد السكان اشتدت الحاجة إلى اللغة كوسيلة للتفاهم والتعبير. ثم اتسعت تلك القرى وتطورت اساليب الحياة لتظهر بواكير المدن، فرافق نشوء المدن ان باتت اللغة وسيلة لاغنى عنها لممارسة الحياة اليومية وما تشتمل عليه من عمليات احتكاك بين السكان.
ثم ظهرت الدول أو مايُصطلح عليه في التاريخ بدويلات المدن، وظهرت بظهورها الحاجة إلى نقل الكلام إلى مسافات بعيدة إلى جانب الحاجة إلى تثبيت مايقال من كلام، بعبارة اخرى، الحاجة إلى “شكل” آخر أو صيغة أخرى للغة اكثر ثباتاً من الكلام الشفوي الذي تتلاشى مويجاته فور النطق به. فتفتق عقل سكان وادينا، وادي النهرين، عن ابتكار جديد اسمه “الكتابة” بمقدوره المحافظة على الكلام وتثبيت ما يقال لآمال غير منتهية.
كان ابتكار الكتابة وتمثيل الأصوات المختلفة باشكال بصرية يرسمها “الناسخ” بقلمه القصبي مثلث الرأس على لوح طيني تمهيداً لتجفيفه طفرة في منتهى الأهمية والخطورة، بل لعله الحدث الأكثر أهمية في كل تاريخ البشرية.
وقد ورثت الإنسانية هذا الإبتكار الهائل وطورته على امتداد التاريخ منذئذ، وما زالت حتى اليوم تطوره وتضيف إليه ما يعزز قدراته.
وفي يومنا هذا الذي يشهد تطورات هائلة في امكانية التواصل “الفوري” بين أناس تفصل بينهم آلاف الأميال التي تتخللها البحار والمحيطات الشاسعة والغابات والجبال والصحارى مترامية الأطراف تزداد الحاجة وتشتد كلما كان التواصل بين فردين مختلفيّ اللغة، فسبل التواصل متاحة، ولكن أي نفع يُرتجى منها اذا لم تكن لغة التواصل بينهما موحّدة؟
من هنا يكتسب تعلم اللغات اهمية قصوى ويغدو ضرورة لامناص منها في عالمٍ تنوف لغاته على الآلاف، وحتى لو اقتصرنا في الكلام على اللغات التي لديها انظمة كتابة، فهي ليست بالعدد الهيّن. تستوجب كل الأعمال الإقتصادية والعقود التجارية والأنشطة والمواقف السياسية، بل وشؤون الحياة اليومية معرفة بلغة الآخر، وإلاّ فكيف يتعاقد التاجر الصيني مع التاجر الأميركي، وكيف تُنقل أخبار المانيا أو روسيا إلى العرب أو الفرنسيين؟
والشباب، بحكم ما يتمتعون به من طاقات عقلية وبدنية وقدرات على الفهم والإستيعاب، هم الفئة الأكثر مناسبةً لتعلم اللغات.. تعلماً يضمن لهم لا القدرة على التواصل مع الآخر ذي اللغة المختلفة، بل ويرسم لهم طريق المستقبل الواعد ويُرسي أُسس حياة مستقبلية تليق بهم ويزودهم بمفتاح الإطلاع على ما لدى الآخر من كنوز فكرية وثقافية. ان يمتلك الإنسان لغة أخرى غير لغته الأم يعني ببساطة انه صار شخصين لا شخص واحد، وبات اكثر نفعاً لنفسه ولمجتمعه. وقد لخص شاعرنا الكبير صفي الدين الحلّي هذه الحقيقة في بيتيه الخالدين:
بِقَدرِ لُغاتِ المَرءِ يَكثُرُ نَفعُهُ
فَتِلكَ لَهُ عِندَ المُلِمّاتِ أَعوانُ
…..
تَهافَت عَلى حِفظِ اللُغاتِ مُجاهِداً
فَكُلُّ لِسانٍ في الحَقيقَةِ إِنسانُ